القاهرة ـ «القدس العربي»: من خلال فن النحت وعنصر الجسد الإنساني يأتي معرض الفنان العراقي علي نوري ـ مواليد عام 1965 ـ والمعنون بـ «ملف شخصي» الذي أقيم مؤخراً في غاليري (إبداع) في القاهرة، وهو المعرض الرابع للفنان في مصر، والثامن في مسيرته الفنية. يتعامل نوري في معرضه الراهن من خلال خامتي البرونز والغرانيت، وإن كانت الغلبة للبرونز، ربما لتجسيد الحالة التي أراد التعبير عنها بشكل أدق. ومن ناحية أخرى ـ وفي إحدى المقابلات الصحافية ـ يُشير الفنان إلى أن كل منحوتة تمثل حالة عاشها وأراد تجسيدها في تمثال.
عالم مرعب
من الصعب الآن أن ينصرف الفنان عما يحدث ويحيطه من أحداث، فهو فرد يعيش داخل سياق سياسي واجتماعي واقتصادي، وبالتالي يتأثر ويعكس تأثره هذا من خلال فنه، أياً كان شكل هذا الفن. حتى لو اختلق فناً يغيب تماماً عن هذه الأحداث أو تلك، فهو موقف ورد فعل عما يحدث أيضاً. هذه الفكرة المختصرة تأمل في توضيح الحالة التي يريد الفنان العراقي إيصالها للمتلقي من خلال معرضه، الذي لم يرد أن يوحي إليه بنظرة موضوعية ـ وهي زائفة في الغالب ـ بل أضاف بشكل مباشر أنها تمسّه شخصياً، وتعبر عن حالات ومواقف من سيرته، فكان العنوان (ملف شخصي). فكيف لنا أن نتوقع من هذه الأعمال التي تأتي من فنان عراقي في المقام الأول، وينتمي لمجتمع غارق في الاضطرابات السياسية والاقتصادية يُطلق عليه (العرب) وفي الأخير إلى شرق أوسط يُعد مرتعاً لمجانين السلطة وأعوانهم؟
جسد لم يعد يحتمل
وعن الواقع الذي نحياه وتأثيره يصبح (الجسد) هو العمل/الفعل الفني ـ المفعول به ـ العاكس لكل هذه المأسي الذي نحياها. الجسد.. المتأثر الأول والمباشر لفعل السلطة، فنحن لا نعيش في عالم شبه ديمقراطي حتى يكون التأثير فكرياً على سبيل المثال، لكنه نظام قمعي، لا يجد أمامه سوى الجسد والتنكيل به ـ نُظم وسلطة العصور الوسطى ـ هنا يصبح الجسد فقط مجال هذا الصراع، الذي يبدو أبدياً ولن ينتهي.
الحركة
وحتى يتم التعبير عن ذلك يجسد الفنان مخلوقاته/حالاته من خلال ملمس هذه الأجساد وحركتها، وهنا لا نجد جسداً مستقيما منتصباً كما هو معهود، لكن المنحوتات في أغلبها في أوضاع حركية تمثل حالة أو شكلا من أشكال التعذيب، كتكوين مُقيّد اليدين أو القدمين، وفي شكل من الأشكال يبدو التمثال وكأنه في لحظة قتل أو اغتيال، وقد أصيب قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. الأمر أشبه بلقطات من الجحيم، لكنه هنا جحيم أرضي بفعل نظام/إنسان آخر، بعيداً عن أساطير الجحيم الأخروي. مع ملاحظة أنها تقترب في أغلبها من الأرض، في لحظات سقوط وألم، أو حتى المُجاهدة للوقوف للحظات خاطفة، تبدو معها أنها ستوشك قريباً جداً على الانهيار، كحالة منحوتة الرجل والمرأة ـ المنحوتة الوحيدة التي تضم شخصين ــ فالكل في عزلة ينتظر مصيره، وكأنها في حساب شخصي يوم القيامة.
كذلك اختصر الفنان وجرّد موضوع العمل من الفاعل أو المتسبب، واقتصر فقط على النتيجة، وذلك حتى لا يحصر الأمر في سلطة معينة أو نظام قمعي مُحدد، وهنا يتيح الأمر حالة من التواصل للمتلقي مع كل منحوتة وحالتها الخاصة.
التقنية
وبعد الحركة تأتي التقنية التي تؤكد الفكرة وتزيد من حالة هذه الأجساد، وهنا ومن خلال خامة البرونز، والابتعاد عن الأجساد الملساء، أو حتى تفاصيل وجوه أصحابها، تبدو الأجساد وكأنها تخرج من تحت الأنقاص، أو نتيجة قصف ومعارك دامية.. أعضاء متداخلة، وجوه مُخبأة، معصم مقيّد، وجسد متداخل لا يجد الرحم الذي يؤويه، مشاهد ولقطات مُفزعة، أو حالات لا تُحتمل مرّ بها الفنان صاحب التجربة. ولا نستطيع إنكار مشاهدة مثل هذه اللقطات حقيقة، سواء في الصحف أو الفضائيات، لكن أن تكون مُجسدة هكذا في قاعة عرض، وبتفاصيل شديدة الدِقة، رغم السِمة التجريدية الواضحة، فهو أمر مفزع، يعكس صدق التجربة الحياتية والفنية بشكل كبير.