اعادة نشر
محمد محيسن
عندما حطت الحافلة رحالها وبدت ملامح غزة تظهر بوضوح، كان المشهد غريبا، فقد زال التعب والإعياء عن ركاب الحافلة بعد سفر زاد على عشر ساعات.
البعض لاذ بالصمت، وآخرون تأبطوا شجرة النخيل الباسقة التي تقابلك عند المعبر، والكثيرون أطالوا التأمل بلوحة كتب عليها «أهلا بكم في فلسطين «.
عند خروجنا من المعبر ودخول المعبر الفلسطيني سجد الكثيرون لله حمدا على رؤية التراب، صدقوني فقط التراب، فلم يكن هناك الكثير ليروه، امتزجت فرحتهم بقطرات الدموع التي انهمرت، عندما لامسوا تراب فلسطين، فهنا يتوقف الكلام وهنا يتوقف كل شيء، حتى الصمت يلوذ بالفرار.. فقط لغة البكاء والحنين هي التي تلازمك عندما تصل الى غزة .
في غزة الفرح كامل، تضحك من قلبك، وتبكي من الفرح وتفرح للقاء.. ويشدك الحنين الى الحنين.. ويشدك التراب الى التراب حتى وان كنت ترتمي بين احضانه.
ويشدك البحر إلى البحر والموج إلى الموج، والشارع الى الشارع الآخر، والشجرة الى التي تليها، والحارة الى الزقاق، والمخيم إلى المخيم.. والبيت الى البيت ..
في غزة تشعر بأنك في حالة إدمان كامل على الاشتياق، مع إحساس بالعزة في بعض الأحيان، مع إعراض الرجفة الخفيفة، وشيء يأخذ القلب إلى الخفقان اللاإرادي.. أما العقل فقد بات يتلقى الأوامر، ويتصرف على وحي من صعوبة اللقاء وعظمة الصورة.
في كل بيت من بيوتها امل يتجدد ـ صراع من اجل البقاء .. وبقاء من اجل هدف، وهدف من اجل وطن أوسع.
غزة صباحا تعبق بالحب ولكنها أسيرة الحزن الذي لم يفارقنا كلما فارقنا محبا، او حاولنا الابتعاد عن الوجع المسكون فينا. الوجع المسكون في عرق الصيادين والفلاحين، والذين يتوقعون الموت مع كل شبكة، ومع كل موجة تحملها الرياح إليهم، ومع كل ضربة معول. لكن الرزق يأتي بلا توقف ليهزم الخوف وينتصر عليه..
غزة مساء ريح مشبعة بوجع الحنين القادم من عمق الأرض الأسيرة.. وانتظار لصبح أطل من نافذة الفندق.. ومسجد يصدح بالأذان.. وتكبيرة الإحرام تتهادى مع أمواج البحر .. وأمامك الأفق الأسير يرنو على استحياء، ملامح ضوء طال انتظاره.
وفي ليل غزة حكايا مليئة البطولات، ووجوه سمر ربطوا أنفسهم بأمل استكمال الطريق الى الحرية.. وأمهات فقدن السيطرة على أبنائهن الذين عرفوا طعم الحرية، فلم يجدن الا الدعاء وانتظار الصبح، وصبايا غرقن في التفكير كيف يتحملن عذاب الصبر على الفراق .
وللطعام مذاق آخر يعبق برائحة الأرض والبركة، وللماء هناك حكاية. ولكل إنسان يها قصة من الصبر ومن الجرح ومن الحب والحلم.
غزة كما الوداع أنت، وكما الحرية أنت، ستبقين ظلي العالي نشيدي القديم.. ابقي كما عهدناك، لا تتغيري، سيري بنا الى العزة، قودينا، علمينا دروسا في التاريخ وفي الجغرافيا وفي فن البقاء، وفن استقبال الوجع، والتعايش مع الصبر وعلى الصبر، علمينا فن الحصار والتعالي على الجروح .