هذا الموقع تجريبي
Weather Data Source: weather for Amman

ثقافة نفي واغتراب

ما من شيء يسافر عبر الذات، ويقض مضجعها سوى الألم والحزن والحسْرة. بينما الأمل سراب يمشي ويغذيه الحنين والشوق الدائمين، إننا إزاء تجربة حيوات فيها من المعاناة ما تقطع الصلة مع الأوطان على سبيل التعبيرات المجازية المرسلة، وبالتالي تتولد نبرة التأسف العابرة للقلوب؛ لأن فك الارتباط يكون اضطراريا لا اختياريا. إن الاضطهاد السياسي والثقافي أكبر عنوان على الاختلال، الذي تعرفه بنية المجتمع الإنساني، ويكون اللبس والغموض قد أحاط بمفهومي المنفى والاغتراب. وفي سبيل ذلك نجد العديد من الكتاب العالميين يوثقون لهذه التجربة بالعديد من الإبداعات؛ كي تصبح، هذه الأخيرة، وثيقة شاهدة على هذا التشرد والانفصال.
فالنكبة الفلسطينية، في منتصف القرن العشرين، فجرت سيولا وأنهرا من الهجرات نحو بلدان أخرى، جعلت منها أوطانا بديلة تنسي أيام أنسي. ففي مقال «تأملات في المنفى» لإدوارد سعيد كشف عن سر الرحيل، كالعصافير التي تهجر أعشاشها، من أجل استقرار فكري ومادي منشود، وخروجا عن دائرة الخنوع والانبطاح. فالظروف التاريخية تحتم على الكاتب أو الشاعر أن ينساق وراء الموضة العالمية، دون نسيان أو تجاهل الأصول والمرجعيات الثقافية والاجتماعية، فإدوارد سعيد، في سيرته الذاتية، التي عنونها بـ»بعيدا عن المكان» كان من رعيل المثقفين الذين جعلوا، في جل إبداعاتهم، من فلسطين حجر الزاوية. فعلى الرغم من اللغة المحتضنة لغة شكسبير، إلا أنها لم تستطع أن تحجب عنهم، شموس لغة الضاد؛ لأنها خطاب الهوية العامر بالتجارب، والمنساق وراء تمثيل الذات في وعيها المستمر. فمن بين الروائيين العالميين الذين تأثر بهم إدوارد سعيد نجد، كما هو معروف الروائي البولندي جوزيف كونراد، الذي كان يرى فيه، إدوارد، المثل الأعلى في التشبث بالأصول، وعدم الإذعان لمغريات بريق الحياة الجذاب. فالاضطهاد الذي خضع له الشعب البولندي، من طرف القوات الروسية، دفع بكونراد إلى الهجرة نحو فرنسا، ومن ثم إلى إنكلترا، فكانت باكورته الروائية «جنون ألميير» التي أصدرها نهاية القرن التاسع عشر، شديدة الارتباط بمَيْعة الصبا وعوالم الطفولة، التي قضاها كونراد قرب الحدود بين روسيا وبولندا، ففي الاتجاه ذاته، نابت الروائية المصرية رضوى عاشور عن الشعب اللاجئ من أرضه فلسطين بروايتها الموسومة بـ»الطنطورية» ليعيش، جراء العصابات الصهيونية، التي تدك البلاد والعباد، الشتات والتشرذم في ملاجئ بين لبنان والإمارات ومصر. وبهدف الاحتفاء بيوم الأرض تصدرت، أوراقَ الرواية، خريطةُ فلسطين؛ فامتدت بين شمال وجنوب وغرب، لبنان وسوريا ومصر لتتنفس فلسطين على طول البحر الأبيض المتوسط على الشريط الممتد من عكا وحيفا والطنطورية إلى حدود غزة ورفح جنوبا. فنجحت رضوى عاشور، بذلك، في انتزاع الخصوصية الثقافية والاجتماعية، التي تتربع عليها عادات وتقاليد المجتمع الفلسطيني، انطلاقا من منطقة الطنطورية، وما يتحوطها من بلدان كالصفورية والناصرية، تقول رضوى عاشور في رواية «الطنطورية»: «من زفة العريس إلى صَمْدَة العروس إلى العمات والخالات المنهمكات في إعداد الطعام، يغنين:
قـولوا لأمه تفرح وتتهـنا
تـرش الوسايد بالعطر والحـنا
والـفـرح إلنا والعرسان تتهنا
والـدار داري والبيوت بـيـوتي
واحنا خطبنا يا عدوي موتـي»

فالغناء أو الدبكة الفلسطينية كانت من بين الثيمات الأساسية، التي قاومت بها رضوى عاشور، على امتداد الرواية، الهجرة والاجتثاث، وقطع الصلة مع الانتماء للشعب الفلسطيني؛ لأن الفن وجهٌ من وجوه صعود الهوية.
فغير بعيد عن المحروسة فلسطين، نجد لبنان الذي قتلته الهويات المتناحرة، التي تحاول استئصال الآخر، وخندقته في التزمت والانحدار المقيت. فمن الرابطة القلمية في نيويورك، وزعيمها الروحي جبران خليل جبران، كان المشتل عامرا يضم أسماء أخرى بارزة في الأدب العربي، أمثال: ميخائيل نعيمة، ونسيب عريضة، ورشيد أيوب، وندرة حداد، استطاعوا أن يدافعوا عن كينونة الثقافة التي ينحدرون منها، بخلق شبكة تواصل مع الأدباء كافة من مختلف الأمصار. وفي الاتجاه ذاته، كان أمين معلوف من الروائيين العالميين الذين بصموا تجربتهم بهوية مزدوجة، متنقلا بين لبنان وفرنسا؛ ليبدع أروع رواياته باللغة الفرنسية. فكانت «ليون الافريقي» الوجه المطابق لمسار أمين معلوف من خلال الشخصية الرئيسية؛ الحسن بن محمد الوزان الفاسي الذي ولد في الأندلس، فكانت الهجرة إلى فاس من نصيب العائلة، بعدما شنت المسيحية، في شبه الجزيرة الإيبيرية، التطهير العرقي للغزاة، في نظرهم. فبينما كان الفاسي عائدا من الحج وقع أسيرا في يد الفرنجة، ليصبح عبدا مملوكا، ومن ثم يتم بيعه في سوق النخاسة في روما، ليعيدوا تثقيفه من جديد. إن هذه السيرة الذاتية، لشخصية الحسن بن محمد الوزان، تنطبق إلى حد ما مع مؤلفها أمين معلوف، بما هو ينشطر إلى هويتين مختلفتين؛ عالم ينجذب إلى القديم، وعالم يسبح في تيارات المعاصر. فالهوية لا تستكين إلى اللغات، بقدر ما تركن إلى الإبداع، وإلى التفاعل والتعبير عن ما يمور بالذاكرة، وحفظ التراث الثقافي من الإمحاء والتلاشي. فمهما طال بنا الحديث عن أمين معلوف نجد أنفسنا أمام تحديات العلاقة، التي تجمع بين الفكر واللغة.
فالسؤال الذي يفرض ذاته، هل للتفكير أصول لغوية متعارضة، ومنطق الإبداع؟ أم التفكير ما هو إلا وسيلة ينسجم فيها المبدع مع ذاته؟ بمعنى أنه عند الإبداع، فالتفكير يعود بنا إلى الحتمية التاريخية الثابتة، بينما اللغة متحولة، تتكيف مع البيئة والوسط، الذي يحيا فيه المبدع. بينما عبد الرحمن منيف يعتبر رائد كتابة المنفى، حيث ينتقد في العديد من رواياته الواقع العربي، وما يعانيه من الحرمان وسلب للحريات. وما «براغ « سوى مكان للبوح، والاعتراف بجميل السجون.
كتابة المنفى ما هي إلا ارتماء في أحضان الشوق والحنين، المكلل بالانتقاد، وفي الوقت ذاته إعلاء لقوة الكلمة، أو أي وسيلة إبداعية تزعج وتؤرق سكون وجمود ورتابة الواقع، بما هو يتوق إلى ضخ، في عجلة سنة التطور، نفسا جديدا، يضمن به استمرارية في تحسين أوضاع بحاجة إلى الكشف.

الكاتب المعربي رشدي سكري

القدس العربي