أسرار صلاة الجماعة وفوائدها على الفرد والمجتمع
محمد سلامة الغنيمي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إن الله تعالى قد صمم الإنسان خصيصاً ليتوافق مع شرعه ومنهجه , إذا التزم به هدى وسعد فى الدارين , وإذا انحرف عنه ومال الى غيره شقى وضل فى الدارين , يقول الله تعالى:" وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[1]".
فالتشريع الإلهى بمثابة الكتالوج الذى وضعه مخترع الآلة لمن يريد أن يحسن التعامل معها , ولله المثل الأعلى , قال تعالى:" فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ "[2] أى جعلهم مخلوقين لهذه الغية , مجبولين عليها , مهيئون لها .
فأنت حين تلبى أوامر الله بلإتيان أو بالمنع على حد سواء , تشعر حينها بالسعادة والغبطة الداخلية التى يعجز اللسان أحياناً عن وصفها , وقد أجملها بعض السلف فى جنة الدنيا , وعلى النقيض من ذلك يشعر المنحرف بالأسى والحزن وينتابه التوتر والقلق من جراء مخالفته لقوانين فطرته .
إذا أردنا أن نبحث مجتهدين فى حكمة مشروعية صلاة الجماعة وأسرارها ، يكون لذاماً علينا أن نذكر سبب الأسباب وغاية الغايات والحكمة العليا التى من أجلها خلق الله تعالى الخلق ، وهى عبادته جل فى علاه ، قال تعالى : " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " [1] , وقال تعالى:" وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا"[3].
ومن وراء هذه الحكمة العظيمة تتجلى فوائد واسرار التكاليف التى كلف الله بها هذا الإنسان المنوط بعمارة الإرض وخلافتها , فقد جعل الله تعالى لهذه التكاليف أسراراً ومردودات تضفى على ذلك الإنسان جانباً من القوة والسلامة النفسية والبدنية والإجتماعية , التى تعينه وتمكنه من اداء مهمته فى هذا الكون الفسيح , فالله تعالى لا ينال شيئاً من انحنائات المصلى ولا سجوده ولا قيامه , ولا يناله شيئاً من امتناعه عن الطعام والشراب الذى أباحه له ولا يناله شيئاً من لحوم الذبائح ولا دمائها ولكن التقوى والخلافة المنشودة .
أما فيما يتعلق بالصلاة ركن الإسلام الاول بعد الإعتراف بوحدانية الله ورسالة رسول الإسلام , تؤدى خمس مرات يومياً بعد أن كانت خمسين فى جماعة من المسلمين فى بيت من بيوت الله , فلا شك أن هذه الصلوات بهذه الكيفية وبهذا الإهتمام تحمل فى مضمونها حكماً سامية وفؤائد بالغة وأسراراً مرعية تعود فى فرد المصلى وعلى جماعة المصلين كذلك , نجتهد فنذكر بعضاً من هذه الحكم .
أسرار صلاة الجماعة ومردوداتها على الفرد:-
صلاة الجماعة تضفى على القلب الطنأنينة ، وتجلب الراحة من مكابدة الحياة ومشاق العمل ، حيث يتوجه الفرد بقلبه وعقله وجسده إلى إلى ربه ومولاه راجياً عفوه ، طامعاً فى رضاه ، منشغلاً بذكره ومناجاته طارحاً همومه ومتاعبه ، فتتغاشاه السكينة وتنزل عليه الرحمة ويشعر بالراحة والهدؤ ، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم الذى هو أفضل خلق الله قاطبة ، يقول لبلال مؤذنه : " أرحنا بها يا بلال "[4] أى أقم الصلاة لتجلب لنا الراحة من التعب والهناء والشفاء .
وقد فرض الله الصلاوات الخمس فى أوقات مختلفة ، لايجوز أدائها فى غير هذه الأوقات إلا لذو عذر ، وقد ناسب سبحانه هذه الأوقات ونوعها لتتناسب وتتكيف مع حركة ونشاط الإنسان فى اليوم والليلة ، فالصبح من بداية اليوم ، والظهر مع ذروة العمل ، والعصر يتوسط النهار ، والمغرب فى نهاية اليوم ، والعشاء إستعداداً للنوم .
ولذا فإن أداء هذه الصلوات فى جماعة تعين المسلم على مشاق الحياة والتكيف معها والتعامل مع كل أوقات اليوم والليلة ، فتضفى هذه الصلوات على الفرد فى تلك الأوقات مع أدائها وسط إخوانه إستقراراً نفسياً وثباتاً إنفاعلياً ، تجعله مهيئاً نفسياً وجسدياً للتعامل مع الحياة ومع كل وقت بما يناسبه ، فلا يصاب المسلم بالقلق والتوتر , ولا يغشاه فتور العمل ورتابة الروتين اليومى.
يقف المسلم فى صلاة الجماعة بجوار أخيه المسلم فى صفوف متساوية خلف إمام واحد هو أعلمهم ، لافرق بين بعضهم البعض أكتافهم متلاحمه وأقدامهم متلاصقه ، ووجوههم متجة إلى الله بالذل والخشوع إليه .
وهنا تبدو لنا حكمة الله البالغة من هذه الجماعة ، عندما يشعر كل إمرؤ بأنه عند ربه مثل بقية إخوانه لافرق بينهم ولا فضل لأحد على أحد ، الحاكم بجوار المحكوم والقائد بجوار المقود ، والغنى إلى جانب الفقير والخادم مع المخدوم ، الكل فى هذا الموقف أمام الله سواء ، الكل يرجو عفو ربه ويطمع فى رضاه ، وإن تفاوتت بينهم الحظوظ فى الحياة فهى من قبيل الإبتلاء وليس التفضيل ، فيشعر كل فرد بالرضا والقناعة والتوافق النفسى والإجتماعى .
ومن الجدير بالذكر أنه لاتوجد ديانات تساوى بين معتنقيها فى شعيرة من الشعائر على هذا الوضع وبهذا العدد فى اليوم والليلة إلا فى الإسلام ، الذى لايعرف العنصرية والتعصب .
ومن الثابت كذلك غلبة السلوك الجماعى على السلوك الفردى ، فالسلوك أو الإتجاه العام للجماعة يجذب أفراده للإيمان به والإمتثال إليه ، فحينما يتواجد الفرد بصفة مستمرة فى جماعة خلقها الصدق وذم الكذب ، فلابد ستكون هذه صفته كذلك ، وإن كان على غيرها فمع مرور الوقت سيتأثر بها حتى تصير صفته مثل جماعته ، كذلك فإن التجمع لاداء الصلوات والإلتزام بسننها وأدابها ، يجعل كل فرد يكتسب مجموعة من القيم والأخلاق الفاضلة وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى أما الأفراد الذين لاتقام فيهم الصلوات ، فإنهم بذلك يكونون فى حوذة الشيطان عرضة لنهبه وإفساده ، لانهم لم يتحصنوا بها عليه ، كما أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم فى قوله: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية»[5] .
أسرا صلاة الجماعة على مجتمع المصليين :-
فتبدوا حكمتها فى تحقيقها للغاية الإسلامية العظمة فى حفظ التماسك الإجتماعى ووحدته ، وإعتصام أفراده بحبل الله ، ونبذ كل ما يؤدى شق الصف والفرقة والخصومة ، يقول النبى صلى الله عليه وسلم : " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" ثم شبك بين أصابعه[6] .
صلاة الجماعة بمثابة صورة مصغرة للمجتمع المسلم الكبير ، لهم إمام واحد يقف خلفه جماعة متراصين لافرقة ولافرجة بينهم متوجهيين بأرواحهم وقلوبهم وعقولهم إلى ربهم ، مستقبلين بأجسادهم مع إمام قبلة دينهم ، تحرم عليهم مخالفة الإمام ولا تجوز مسابقته ومساواته مكروهه عندهم ، إذا نسى الإمام أو أخطأ لانه ليس معصوم فهو مثلهم ومنهم فتحوا عليه وراجعوه بإنتظام وآداب ، ينتقون إمامهم وفقاً لضوابط ومعايير وضعها لهم إسلامهم ، تكمن فى الكفاءة والتقوى وتغض الطرف عن الأصل أو اللون من غيرما تمييز عنصرى أو عرقى بغيض .
وهنا يتبادر إلى أذهاننا سؤالاً ، إن كان المسلمون يجتمعون على هذا الحال وبهذا للإخلاص فى اليوم خمس مرات ، موزعة على مدار اليوم ، فكيف يكون حالهم ؟ .
تبدوا عليهم معايير تماسك الجماعة من غياب الأنا والإنصياع لكلام الله ورسوله والإنتظام والتشابك ووحدة الهدف وسمو الغاية .
لذلك فإن لها دور هام فى تلقين الأدوار الإجتماعية ، والتذكير بما ينبغى أن تكون عليه الجماعة المسلمة ، وتربية الأجيال على هذه المواصفات ، لذلك لما غابت صلاة الجماعة من المسلمين ، طفت علينا بعض الظواهر الإجتماعية التى لم تكن بهذه الصورة عند أسلافنا ، من الصراع والعصبية وحب الظهور ، وتوالى أمور المسلمين من ليسو بأهلها .
وكذلك لايخفى علينا الدور الهام الذى تؤديه الجماعة فى بنء العلاقات الإجتماعية الفعالة تجدها فى المساجد بين المصليين ، حيث ترى أجواء التكافل الإجتماعى والتواصل الفعال بين أوساط المجتمعات التى يحرص أفرادها على صلاة الجماعة حيث تكون أكثر قوة وتماسكاً بالمقارنة بغيرها .
فى حين أن المجتمعات المتحضرة ، المنشغلة بجلب الحظوظ الدنيوية والمادية ، حيث تكاد تنعدم بينهم الجماعات ، تجد العزل الأسرى كل أسرة معزولة منطوية على نفسها ، لدرجة أنه الجيران لايعرفون بعضهم البعض .
وكان ذلك سبباً رئيسياً فى إنتشار الإكتئاب والشعور بالقلق والتوتر والخوف من المستقبل والشعور بالعزلة داخل هذه الأوساط.
هذا ولا ينبغى أن تتغافل عن دور الجماعات فى القضاء على بعض الأمراض الإجتماعية الفتاكة ، التى تفتك بالمجتمعات وتؤدى إلى الصراعات والبغض والكراهية بين الأفراد ، وعلى رأس هذه الأعراض يأتى الحسد .
حيث يدردك المصلين جميعهم أنهم جميعهم متساوون أمام الله ، وإنه سبحانه لم يميز بينهم فى الرزق ولا غيره ، وإنما تفاوتت الحظوظ بينهم وإختلفت الأدوار من أجل التفاعل الإنسانى وعمارة الأرض ، فحين يشعر المصلى الحاسد بوقوف المحسود إلى جانبه فى صف واحد وعلى هيئة واحدة ، فلا حسد ولاشحناء ولا بغضاء ، فالكل يركع ويسجد متذللاً لله الرزاق ، فلا ذل إلا إليه ولا حاجة إلا عنده جل فى علاه ، يقول : " وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ " [2]
----------------------------------
[1] [ سورة الذاريات : 56 ] .
[2] [ سورة العنكبوت : 45 ] .
[1] [ الأعراف : 96 ]
[2] [ الروم : 30 ]
[3] [ الجن : 17 ]
[4] [رواه: أبو داود، وأحمد، والبغوي، والطبراني , وصححه الالبانى فى المشكاة ]
[5] [رواه أحمد وأبو داود والنسائي وحسنه الألبانى فى المشكاة ]
[6] [ متفق عليه]
http://saaid.net/Minute/696.htm