إِنَّ من أهداف الحكم الإِسلاميِّ الحرص على إِقامة قواعد النِّظام الإِسلاميِّ الَّتي تساهم في إِقامة المجتمع المسلم، ومن أهمِّ هذه القواعد العدلُ، والمساواة، ففي خطاب الفاروق للأمَّة أقرَّ هذه المبادئ، فعدالته، ومساواته تظهر في نصِّ خطابه الَّذي ألقاه على الأمَّة يوم تولِّيه منصب الخلافة؛ ولا شكَّ: أنَّ العدل في فكر الفاروق هو عدل الإِسلام؛ الذي هو الدِّعامة الرَّئيسية في إِقامة المجتمع الإِسلاميِّ، والحكم الإِسلاميِّ، فلا وجود للإِسلام في مجتمعٍ يسوده الظُّلم، ولا يعرف العدل.
وكان الفاروق قدوةً في عدله، أسر القلوب، وبهر العقول، فالعدل في نظره دعوةٌ عمليَّةٌ للإِسلام، به تفتح قلوب النَّاس للإِيمان، وقد سار على ذات نهج الرَّسول (صلى الله عليه وسلم)، فكانت سياسته تقوم على العدل الشَّامل بين النَّاس، وقد نجح في ذلك على صعيد الواقع والتَّطبيق نجاحاً منقطع النَّظير، لا تكاد تصدِّقه العقول، حتَّى اقترن اسمه بالعدل، وبات من الصَّعب جدّاً على كلِّ مَنْ عرف شيئاً يسيراً من سيرته أن يفصل ما بين الاثنين، وقد ساعده على تحقيق ذلك النَّجاح الكبير عدَّةُ أسبابٍ ومجموعةٌ من العوامل. وهذه بعض مواقفه في إِقامته للعدل، والقسط بين النَّاس:
فقد حكم بالحقِّ لرجلٍ يهوديٍّ على مسلم، ولم يحمله كفر اليهوديِّ على ظلمه، والحيف عليه. أخرج الإِمام مالكٌ من طريق سعيد بن المسيِّب: أنَّ عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ اختصم إِليه مسلمٌ، ويهوديٌّ، فرأى عمر: أنَّ الحقَّ لليهوديِّ، فقضى له، فقال له اليهوديُّ: والله لقد قضيت بالحقِّ! وكان رضي الله عنه يأمر عمَّاله أن يوافوه بالمواسم، فإِذا اجتمعوا؛ قال: أيُّها النَّاس! إِنِّي لم أبعث عمَّالي عليكم؛ ليصيبوا من أبشاركم، ولا من أموالكم، إِنَّما بعثتهم؛ ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فُعِل به غير ذلك فليقُم، فما قام أحد إِلا رجلٌ واحدٌ قام، فقال: يا أمير المؤمنين! إِنَّ عاملك ضربني مئة سوطٍ. قال: فيم ضربته؟ قم فاقتصَّ منه، فقام عمرو بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين! إِنَّك إِن فعلت هذا يكثر عليك، ويكون سنَّةً يأخذ بها من بعدك، فقال: أنا لا أقيد؛ وقد رأيت رسول الله يقيد من نفسه! قال: فدعنا، فلنرضه، قال: دونكم، فأرضوه، فافتدى منه بمئتي دينارٍ، كلُّ سوطٍ بدينارين ولو لم يرضوه؛ لأقاده رضي الله عنه.
من صور تطبيق المساواة بين النَّاس ما قام به عمر عندما جاءه مالٌ، فجعل يقسمه بين النَّاس، فازدحموا عليه، فأقبل سعد بن أبي وقاص يزاحم النَّاس، حتَّى خلص إِليه، فعلاه بالدِّرَّة، وقال: إِنَّك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض، فأحببتُ أن أعلمك أنَّ سلطان الله لن يهابك
وجاء رجلٌ من أهل مصر يشكو ابن عمرو بن العاص واليه على مصر قائلاً: يا أمير المؤمنين! عائذٌ بك من الظُّلم. قال: عذت معاذًا. قال: سابقت ابن عمرو بن العاص، فسبقته، فجعل يضربني بالسَّوط، ويقول: أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر إِلى عمرٍو ـ رضي الله عنهما ـ يأمره بالقدوم، ويقدم بابنه معه. فقدم عمرٌو، فقال عمر: أين المصريُّ؟ خذ السَّوط، فاضرب. فجعل يضربه بالسَّوط، ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين؟ قال أنس: فضرب، فوالله! لقد ضربه، ونحن نحبُّ ضربه، فما رفع عنه حتَّى تمنَّينا أن يرفع عنه، ثمَّ قال عمر للمصريِّ: اصنع على صلعة عمرو. فقال: يا أمير المؤمنين! إِنَّما ابنه الَّذي ضربني، وقد اشتفيت منه. فقال عمر لعمرٍو: مذ كم تعبَّدتم النَّاس وقد ولدتهم أمَّهاتهم أحراراً؟ قال: يا أمير المؤمنين! لم أعلم، ولم يأتني!
إِنَّ النَّاس جميعاً في نظر الإِسلام سواسيةٌ، الحاكم والمحكوم، الرِّجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، فلقد ألغى الإِسلام الفوارق بين النَّاس بسبب الجنس، واللَّون، أو النَّسب، أو الطَّبقة، والحكام والمحكومون كلُّهم في نظر الشَّرع سواءٌ، وجاءت ممارسة الفاروق لهذا المبدأ خير شاهدٍ، وهذه بعض المواقف الَّتي جسَّدت مبدأ المساواة في دولته:
فعن ابن عباسٍ: أنَّه قال: قدم عمر بن الخطَّاب حاجّاً، فصنع له صفوان بن أميَّة طعاماً، فجاؤوا بجفنةٍ يحملها أربعةٌ، فوضعت بين يدي القوم يأكلون، وقام الخدَّام، فقال عمر: أترغبونه عنهم؟ فقال سفيان بن عبد الله: لا والله يا أمير المؤمنين! ولكنَّا نستأثر عليهم، فغضب عمر غضباً شديداً، ثمَّ قال: ما لقوم يستأثرون على خدَّامهم، فعل الله بهم وفعل! ثمَّ قال للخدَّام: اجلسوا، فكلوا، فقعد الخدَّام يأكلون، ولم يأكل أمير المؤمنين.
وكذلك فإِنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ لم يأكل من الطَّعام ما لا يتيسَّر لجميع المسلمين، فقد كان يصوم الدَّهر، فكان زمن الرَّمادة إِذا أمسى أتي بخبز قد ثرد بالزَّيت، إِلى أن نحروا يوماً من الأيام جزوراً، فأطعمها الناس، وغرفوا له طيِّبها، فأتي به فإِذا قديدٌ من سنامٍ، ومن كبدٍ، فقال: أنَّى هذا؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين! من الجزور التي نحرناها اليوم. فقال: بخٍ بخٍ، بئس الوالي أنا إِنْ أكلت طيِّبها، وأطعمت الناس كرادسها، ارفع هذه الجفنة، هات غير هذا الطَّعام، فأتي بخبزٍ وزيتٍ، فجعل يكسر بيده، ويثرد ذلك الخبز.
ولم يكن عمر ليطبِّق مبدأ المساواة في المدينة وحدها، من غير أن يعلِّمه لعمَّاله في الأقاليم، حتَّى في مسائل الطَّعام، والشَّراب. فعندما قدم عتبة بن فرقد أذربيجان؛ أتي بالخبيص، فلمَّا أكله وجد شيئاً حلواً طيِّباً، فقال: والله لو صنعت لأمير المؤمنين من هذا، فجعل له سفطين عظيمين، ثمَّ حملهما على بعيرٍ مع رجلين، فسرح بهما إِلى عمر. فلمَّا قدما عليه؛ فتحهما، فقال: أيُّ شيءٍ هذا؟ قالوا: خبيص. فذاقه، فإِذا هو شيءٌ حلوٌ. فقال: أكلُّ المسلمين يشبع من هذا في رحله؟ قال: لا. قال: أمَّا لا؛ فارددهما. ثمَّ كتب إِليه: أمَّا بعد: فإِنَّه ليس من كدِّ أبيك، ولا من كدِّ أمِّك. أَشْبِعِ المسلمين ممَّا تشبع منه في رحلك.
ومن صور تطبيق المساواة بين النَّاس ما قام به عمر عندما جاءه مالٌ، فجعل يقسمه بين النَّاس، فازدحموا عليه، فأقبل سعد بن أبي وقاص يزاحم النَّاس، حتَّى خلص إِليه، فعلاه بالدِّرَّة، وقال: إِنَّك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض، فأحببتُ أن أعلمك أنَّ سلطان الله لن يهابك. فإِذا عرفنا: أنَّ سعداً كان أحد العشرة المبشِّرين بالجنَّة، وأنَّه فاتح العراق، ومدائن كسرى، وأحد السِّتَّة، الَّذين عيَّنهم للشُّورى؛ لأنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مات، وهو راضٍ عنهم، وأنَّه كان يقال له: فارس الإِسلام… عرفنا مبلغ التزام عمر بتطبيق المساواة.
في هذه القصَّة نرى حرص الفاروق على مبدأ المساواة أمام الشَّرع، فالإِسلام قد سوى بين الملك والسُّوقة، ولا بدَّ لهذه المساواة أن تكون واقعاً حيّاً وليس مجرَّد كلماتٍ توضع على الورق، أو شعارٍ تردِّده الألسنة
ويروي ابنُ الجوزي: أنَّ عمرو بن العاص، أقام حدَّ الخمر على عبد الرحمن بن عمر بن الخطَّاب، يوم كان عامله على مصر. ومن المألوف أن يقام الحد في السَّاحة العامَّة للمدينة، لتتحقَّق من ذلك العبرة للجمهور، غير أنَّ عمرو بن العاص أقام الحدَّ على ابن الخليفة في البيت، فلمَّا بلغ الخبر عمر، كتب إِلى عمرو بن العاص: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إِلى العاص بن أبي العاص: عجبت لك يا بن العاص، ولجرأتك عليَّ، وخلاف عهدي. أما إِنِّي قد خالفت فيك أصحاب بدرٍ ممَّن هو خيرٌ منك، واخترتك لجدالك عنِّي، وإِنفاذ عهدي، فأراك تلوثت بما قد تلوثت، فما أراني إِلا عازلك فمسيء عزلك، تضرب عبد الرَّحمن في بيتك، وقد عرفت أنَّ هذا يخالفني؟ إِنَّما عبد الرحمن رجلٌ من رعيَّتك، تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين، ولكن قلت: هو ولد أمير المؤمنين، وقد عرفت أنْ لا هوادة لأحدٍ من النَّاس عندي في حقٍّ يجب لله عليه، فإِذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءةٍ على قتبٍ حتَّى يعرف سوء ما صنع. وقد تمَّ إِحضاره إِلى المدينة، وضربه الحدَّ جهراً. وروى ذلك ابن سعدٍ، وأشار إليه ابن الزُّبير، وأخرجه عبد الرزاق بسندٍ صحيحٍ عن ابن عمر مطوَّلاً.
ومن الأمثلة التَّاريخية الهامَّة التي يَستدلُّ بها المؤلفون على عدم الهوادة في تطبيق المساواة، ما صنعه عمر مع جبلة بن الأيهم، وهذه هي القصَّة: كان جبلة آخر أمراء بني غسان من قبل هرقل، وأنَّ الغساسنة يعيشون في الشَّام تحت إِمرة دولة الرُّوم، وكان الرُّوم يحرِّضونهم دائماً على غزو الجزيرة العربيَّة، وخاصَّةً بعد نزول الإِسلام. ولما انتشرت الفتوحات الإِسلاميَّة، وتوالت انتصارات المسلمين على الرُّوم؛ أخذت القبائل العربيَّة في الشَّام تعلن إِسلامها، فبدا للأمير الغسَّانيِّ أن يدخل الإِسلام هو أيضاً، فأسلم، وأسلم ذووه معه، وكتب إِلى الفاروق يستأذنه في القدوم إِلى المدينة، ففرح عمر بإِسلامه، وقدومه، فجاء إِلى المدينة، وأقام بها زمناً، والفاروق يرعاه، ويرحِّب به، ثمَّ بدا له أن يخرج إِلى الحجِّ، وفي أثناء طوافه بالبيت الحرام وطأ إِزارَه رجلٌ من بني فزازة، فحلَّه، وغضب الأمير الغسَّاني لذلك ـ وهو حديث عهدٍ بالإِسلام ـ فلطمه لطمةً قاسيةً هشمت أنفه، وأسرع الفزاري إِلى أمير المؤمنين يشكو إِليه ما حلَّ به، وأرسل الفاروق إِلى جبلة يدعوه إِليه، ثمَّ سأله، فأقرَّ بما حدث، فقال له عمر: ماذا دعاك يا جبلة لأن تلطِم أخاك هذا فتهشم أنفه؟
فأجاب بأنَّه قد ترفَّق كثيراً بهذا البدويِّ (وأنَّه لولا حرمة البيت الحرام؛ لأخذتُ الذي فيه عيناه). فقال له عمر: لقد أقررت، فإِمَّا أن ترضي الرَّجل، وإِمَّا أن أقتص له منك. وزادت دهشة جبلة بن الأيهم لكلِّ هذا الذي يجري، وقال: وكيف ذلك، وهو سُوْقَةٌ وأنا مَلِكٌ؟ فقال عمر: إِنَّ الإِسلام قد سوَّى بينكما. فقال الأمير الغسَّانيُّ: لقد ظننت يا أمير المؤمنين! أن أكون في الإِسلام أعزَّ منِّي في الجاهلية. فقال الفاروق: دع منك هذا فإِنَّك إِن لم ترض الرَّجل؛ اقتصصت له منك. فقال جبلة: إِذاً أتنصَّر. فقال عمر: إِذا تنصرت ضربت عنقك، لأنَّك أسلمت، فإِن ارتددت قتلتُك.
وهنا أدرك جبلة: أنَّ الجدال لا فائدة منه، وأنَّ المراوغة مع الفاروق لن تجدي، فطلب من الفاروق أن يمهله ليفكِّر في الأمر، فأذن له عمر بالانصراف، وفكَّر جبلة بن الأيهم ووصل إِلى قرار، وكان غير موفَّقٍ في قراره، فقد آثر أن يغادر مكَّة هو وقومه في جنح الظَّلام، وفرَّ إِلى القسطنطينية، فوصل إِليها متنصِّراً، وندم بعد ذلك على هذا القرار أشدَّ النَّدم، وصاغ ذلك في شعرٍ جميل مازال التَّاريخ يردِّده، ويرويه.
وفي هذه القصَّة نرى حرص الفاروق على مبدأ المساواة أمام الشَّرع، فالإِسلام قد سوى بين الملك والسُّوقة، ولا بدَّ لهذه المساواة أن تكون واقعاً حيّاً وليس مجرَّد كلماتٍ توضع على الورق، أو شعارٍ تردِّده الألسنة. لقد طبَّق عمر ـ رضي الله عنه ـ مبدأ المساواة الَّذي جاءت به شريعة ربِّ العالمين، وجعله واقعاً حيّاً يعيش، ويتحرَّك بين النَّاس، فلم يتراجع أمام عاطفة الأبوَّة، ولم ينثن أمام ألقاب النَّبالة، ولا تضيَّع أمام اختلاف الدِّين، أو مجاملة الرِّجال الفاتحين، لقد كان ذلك المبدأ العظيم واقعاً حيّاً، شعر به كلُّ حاكمٍ، ومحكوم، ووجده كلُّ مقهورٍ، وكلُّ مظلومٍ.
———————————————————————————————————————-
قائمة المصادر والمراجع:
* علي محمد محمد الصلابي، عمر بن الخطاب شخصيته وعصره، ط1، (2005)، صفحة 94:88.
* عبد الله الكيلاني، القيود الواردة على سلطة الدولة في الإسلام، دار البشير، عمان، ط1، (1997)، صفحة 167-168.
* مصطفى أبو زيد فهمي، فن الحكم في الإسلام، المكتب المصري الحديث، صفحة 478:475.
* أبو الفرج عبد الرحمن الجوزي، مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، دار الكتاب العربي، بيروت، ط4، (2001)، صفحة 101- 147- 235.