يوسف محيسن.. يكتب من السويد..
عندما كبرت وصرت في المهجر تم ترقيتي الى رتبة جد..
وعدت الى عادة قديمة في تخيل أحداث وحكايات وبطولات، وخلق شخصيات لا وجود لها..
المشكلة هو أنني لا أروي كل ذلك للآخرين كي لا أتلقى ردود فعل مستهجنة أو ساخرة..الواقع يصعب وانا ألين هو يقسو وانا أتخيل العكس، وأخترع الحكايات..
هكذا من الصغر كان بيني وبين الواقع عداوة.
كتب لي أبني عندما سافر لأول مرة لوحده من غير أن أكون معه " أشتقت لأكاذيبك الجميلة ".
لا يشكل الأمر مشكلة لي لأنني أفهم نفسي جيدا.. أفهم كيف أتوزع وأتبعثر، وكيف أجتمع.
**************************
سألت صديقي العازب عن سبب بقائه عازبا وقد بلغ الأربعين.. فقال: كنت شديد الرغبة في الزواج و أنا في منتصف العشرينات و ذلك لأني أحببت ابنة خالي حبا شديدا.. فطلبت من والدتي خطبتها.. فعلمت بأن أمي أرضعتها حتى شبعت فلم تعد تجوز لي سوى أن تكون أختا..
استغفرت الله العظيم و لم أعد أفكر في الزواج حتى أعجبتني ابنة عمي.. فوقعت في غرامها حتى قررت خطبتها.. فقالت أمي :
" ابنة عمك لا تجوز لك فلقد رضعت من صدري
أيام مرض والدتها حتى شبعت ".
استعذت بالله من حظي البائس.. ولم أفكر في الزواج حتى صادفت ابنة جارنا.. كانت فتاة حسناء جذابة ووالدها رجل من اهل الخير..
فسألت الوالدة أن تطلب يدها.. فجاء رد الوالدة ساحقا ماحقا :
"لا تجوز.. لقد أرضعتها من صدري حتى شبعت حين التقيت والدتها في عرس أحد الجيران.."
فتملكني اليأس و الإحباط بقيت سنين مصدوما من صنيع والدتي التي أرضعت قريتنا وضواحيها مع مراعاة فروق التوقيت.
في احد الأيام زارت قريتنا عائلة كانت من سكان القرية، والأن تقيم في إحدى دول الخليج، ولهذه العائلة بنت تعرفت عليها فاحتفظت بمعلوماتها واستمرت علاقتنا عبر الانترنت واتفقت معها على الزواج وأنهم سسيحضرون إلى القرية العام القادم، واتقدم لخطبتها..
ففاتحت والدتي بالموضوع فقالت: فلانه.. فذهلت وقلت نعم.
لا تجوز يا ولدي أمها زارت القرية، وتركت ابنتها هذه عندنا لبعض الوقت.. جاعت وأخذت تبكي فأرضعتها..
والله يا صديقي.. منذ ذلك اليوم و أنا أعاني من تساقط الشعر من الصدمة... وتعقدت من الزواج..
أنا خايف أموت وأدخل الجنة وألقى أمي الله يرحمها قد أرضعت كل الحوريات.
**********************
في صباح حالك الثلج، مستبد الحزن، حملت رغبتي في الحياة، وقلت لصحتي: أذهبي معي لنزور المستشفى.
لم لا، وفيها الكثير من الحق واليقين، كما المقابر رغم أن في بعض اليقين كثير من الجهل والحمق؟!
عند البوابة واجهتني سيدة مصفرة اللون. كان طفلها عالقا فيها مثل خفاش خرافي. يختبئ خلف ثدي بالكاد نبت فيه حليب.
تجاوزتها ..وأذ برجل ثري، بدا قبره بجانب السرير في بحبوبة من أمره. عندها تذكرت دار الرحيل.
وقول أبو العتاهية " مازال حيا على قيد شعره..
كأنى بالتراب عليك يحثى.. وبالباكين يقتسمون مالك"
يا رباه..
بدأت أنبش في التاريخ الاجتماعي المكتوب على جبين كل مريض مررت به لأستحلب العبر من ناس اموات مع وقف التنفيذ.
براعة توظيف اللغة في المستشفيات، تحث الزائر ليتطوع بالدعاء وطلب المغفرة، تكاد تنتزع منك الفاتحة على الميت الحي، وتطلب لهم الرحمة وتاريخ خروجهم المكلف من الدنيا.