على نواصي الشوارع، وفي الحارات العتيقة، تجده حاملاً مكنسته، وبيديه العاريتين يلملم الأوساخ ليعيدها إلى الحاوية التي امتلأت عن آخرها، يرتدي قميصاً نصفه متسخ ونصفه الآخر ممزق.

اعتاد عليه أهل الحي؛ فهو لا يبالي بأحد إلا مَنْ تعمد أن يلقي نفايته بعيداً عن الحاوية ليتحدث معه بلغة المثقف، وإذا اقتضى الأمر بلغة خشنة، ولكنها لا تغضب أحداً.

كلام أبو جهاد لا يقتصر على أهمية النظافة وأهمية أن تكون الحارة خالية من الأوساخ، بل عن الكثير من القضايا والهموم العامة، ولولا تلك النظرة المتواضعة والملابس الرثة لظننت أنه يحمل أحد تلك الشهادات الجامعية العليا.

أبو جهاد –الذي صار جزءاً من المكان- اعتاد عليه صبيان الحي حتى باتوا يخشون منه خجلا، فهو القائم بينهم، يراقبهم وكأنهم أبناؤه، ويعرف كل واحد باسم والده، يحذر هذا، وينصح ذاك، ويؤنب الشباب الكبار لعدم مبالاتهم، بل إنه لا يلقي بالاً لأحد، فقد عرفه سكان الحي وعرفهم، وشاطرهم همومه وشاطروه همهم.

يستطيع الإجابة عن أي سؤال؛ فهو ضليع بعلم الفراسة واستقراء الوجوه جيداً، ويعرف الكثير من هموم السياسة، حتى الاقتصاد كان لأبي جهاد معرفة جيدة به؛ فقد جاءته هذه المعرفة بعد أن فقد كثير من أقاربه أموالهم، وكانوا من ضحايا البورصات العالمية، وكان له رأي في الانتخابات النيابية يقضي بأنها بلا فائدة إذا لم يشاطر النائب هموم الناس.

كل هذه الأسئلة المعقدة يستطيع أبو جهاد الإجابة عليها بسهولة، باستثناء استفسار واحد عجز عن الإجابة عليه، بل حاول جاهدا الهرب منه، متى يأتي عيد العمال؟ بل قابله بسخرية واستخفاف، ولما كررت عليه السؤال ماذا تعرف عن اتحاد العمال؟ أجاب بالنفي، وأردف قائلا: "يا ابني خليها على الله".

لم أستسلم فأعدت عليه السؤال، وعندما لا حظ علي الإصرار، توقف برهة ثم رفع حاجبيه إلى السماء وأطلق تنهيدة عالية، وقال: "صدقني يا بني لا أعرف أن لنا اتحاداً نلجأ إليه"، وتابع: "هل يعرف هذا الاتحاد الذي تتحدث عنه أنني أعمل منذ 17 عاماً، وراتبي لم يتجاوز 270 ديناراً؟ هل يعلم هؤلاء أننا محرومون من الكثير من الحقوق؛ أبدأها بلقمة العيش وبالتأمين الصحي، ولا أنهيها إلا بالكرامة المفقودة!

ففي كل عام، تمر احتفالية عيد العمال في الأردن بلا طعم ولا رائحة، فهو لا يزيد على يوم إجازة، يمتنع فيه الناس عن العمل، مع العلم أن الكثير من العمال يجهلون متى يأتي، حتى إن معظمهم لا يعرفون أنه يوم إجازة.